"اثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ" - الموضوع الاساسى عام 2025

شعار مهرجان هذا العام "اثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ" هو بمثابة نصيحة ووصية
من القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس قائلاً: "اثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ
وَأَيْقَنْتَ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ" (٢تى ١٤:٣). فقد تحدث معلمنا بولس
لتلميذه تيموثاوس عن صعوبة وفساد الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ، حيث يؤكد عليه ضرورة
الجهاد بروح القوة لا بروح اليأس، من أجل الحفاظ على الإيمان المستقيم، ومقاومة
الهرطقات بحزم، مع وداعة ومحبة، ويوضح له بأن لا يتعجب من وجود هؤلاء المقاومين،
ففى كل زمان يوجد مقاومين للعمل الإلهى. فمع ظهور عمل السيد المسيح الفدائى هاج
الشيطان ضد الكنيسة الوليدة، فى حروب خارجية وداخلية. وكلما زاد اقترابنا من نهاية
الزمان سيزداد بالطبع الشر، فالشيطان دائمًا يقاوم الحق، ولكن ما يطمئننا هو وعد
السيد المسيح أن الكنيسة لن تقوى عليها أبواب الجحيم، فنحيا مطمئنين لأن "ٱللهُ فِى
وَسَطِهَا فَلَنْ تَتَزَعْزَع" (مز 2:46). و"الَّذِى يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى
فَهذَا يَخْلُصُ" (مت ١٣:٢٤).
أولاً: الإيمان الواحد وصحة التعليم
1- لماذا الحفاظ على الإيمان ؟
لأن إيماننا من البداية وضعه الرب يسوع، وكرز به الرسل، وحفظه الآباء، معاشًا
بالكنيسة، وتسلمه من جيل إلى جيل نقيًا وصحيحًا، وفى ذلك يقول معلمنا بولس الرسول
لتلميذه تيموثاوس الأسقف: "وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّى بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ،
أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ
أَيْضًا" (2تى 2:2).
ولابد أن نحافظ على الإيمان الرسولى المُسَلَّم مرة للقديسين (يه 3)، ولا نبتدع
شيئًا فى الدين، ولا ننقل التخم القديم الذى وضعه آباؤنا، فكنيستنا التى أسسها الرب
يسوع لها أكثر من 2000 سنة، إيمانها ثابت ومستقيم، لم يمل يمنة أو يسرى، فالإيمان
فيها هو "إِيمَانٌ وَاحِدٌ" (أف 5:4). وهى تذكرنا كل يوم بهذا الإيمان الواحد، فى
صلاة باكر (أف 5:4).
هذا الإيمان الواحد، هو إيمان كل عضو من أعضاء الكنيسة، ومصدره الأساسى هو الكتاب
المقدس، ثم أقوال الآباء القديسين، وقوانين المجامع المقدسة المعتمدة، وما تسجل فى
كتب البيعة، وبخاصة كتب الطقس الكنسى، وكلها موافقة للكتاب المقدس، وتسمى فى
مجموعها بالتقاليد الكنسية، ولذلك كانت الكنيسة حريصة جدًا فى عصورها الأولى، منذ
أيام الآباء الرسل على سلامة التعليم، حفظًا لسلامة الإيمان، كقول معلمنا بولس
الرسول لتلميذه القديس تيطس أسقف كريت: "وَأَمَّا أَنْتَ فَتَكَلَّمْ بِمَا يَلِيقُ
بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ" (تى 1:2). وأيضًا قال الحكيم: "حَافِظُ التَّعْلِيمِ
هُوَ فِى طَرِيقِ الْحَيَاةِ" (أم ١٧:١٠).
وأمور الإيمان والعقيدة، لا يجوز فيها للمعلمين أن يعلموا آراءهم وأفكارهم الخاصة،
وإنما يعلمون الثابت فى عقيدة ووجدان الكنيسة كما سلَّمته لهم.
إن كل إنسان حر فيما يعتقد، وقد تنحرف حرية هذا الاعتقاد، فيكون خارج إيمان الكنيسة
الواحد، لذلك فالكنيسة المحافظة على الإيمان، والساهرة عليه، لا تسمح له بتقديم هذا
الفكر على أنه عقيدة الكنيسة، ولذلك لا تعطى سلطة التعليم لكل أحد، وتراجع أقوال
المعلمين على الإيمان المُسَلَّمِ مرة للقديسين.
وقد كانت الكنيسة طوال تاريخها فى ملء الحرص على سلامة التعليم، يكفى أن قسًا فى
الإسكندرية - وهو أريوس - بسبب تعليمه الخاطئ عُقد له مجمع فى الإسكندرية، بحضور
البابا القديس بطرس خاتم الشهداء، والبابا ألكسندروس، ومائة أسقف من أساقفة
الإسكندرية وليبيا، ثم عُقد المجمع المسكونى فى نيقية سنة 325م، الذى حضره 318
أسقفًا من كافة أنحاء العالم المسيحى، للتصدى لهذا الفكر الخاطئ. ولم يقل أحد: نترك
الأمر لحرية الاعتقاد!.. ولكن ما هى الأسباب التى تؤدى إلى الهرطقة؟
1- أحيانًا يكون سبب الخطأ فى الإيمان أو فى التعليم، هو الخلطة مع مذاهب أخرى
والتأثر بها
وبمعلميها، أو التتلمذ على أولئك أو على كتبهم، وربما بدارسة مناهجهم العلمية،
ولذلك نجد معلمنا بولس الرسول يوصى تلميذه تيموثاوس: "لاَحِظْ نَفْسَكَ
وَالتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هذَا، تُخَلِّصُ
نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا" (1تى ١٦:٤).
2- وقد يكون السبب فى ذلك هو الاعتداد بالفكر الخاص، وعدم قبول تغييره، وعدم طاعة
الكنيسة فى ذلك. كقول معلمنا بولس: "لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ
فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ" (2تى ٣:٤).
٣- وربما يكون السبب أيضًا هو وجود كبرياء فى القلب، فيقتنع الشخص بأنه على حق، وكل
من يعارضه مخطئ، وأنه يفهم ما لا يفهمه غيره...
٢- سمات المؤمن الأرثوذكسى :
أ- شبعان بالمسيح : فالإنسان الأرثوذكسى لابد أن يكون شبعانًا بالمسيح:
- يعرفه فكريًا: يدرس كلامه، ويفهم لاهوت السيد المسيح: أنه أحد الثالوث القدوس،
يفهمه من حيث الشروحات الإيمانية والعقائدية واللاهوتية، من خلال حياة الكنيسة،
وليتورجياتها، وتعاليمها.
- ويشبع به وجدانيًا ويتحد به كيانيًا: من خلال سر الإفخارستيا: "مَنْ يَأْكُلْ
جَسَدِى وَيَشْرَبْ دَمِى، يَثْبُتْ فِىَّ وَأَنَا فِيهِ" (يو 56:6)، وفى التناول
يلتقى بالمسيح نفسه، يدخله إلى حياته وقلبه وعقله، فيكون المسيح هو تيار الحياة
الذى يظهر فى حياته اليومية.
لأنه لا يوجد لنا خلاص سوى بالمسيح يسوع فقط، أى تعليم إن لم يكن فيه شركة حية مع
المسيح، وعلاقة خاصة معه، يتحول لمعلومات ومجرد معرفة سطحية. فالسيد المسيح هو
الحياة، الذى "بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (أع ٢٨:١٧)، فعندما نذكر
القديسين لأننا نراهم صورة السيد المسيح المعروفة والمقروءة من جميع الناس، يجب
علينا أن نعرف سيرتهم ونتمثل بإيمانهم، فهو صانع القديسين، ومن أحب القديسين أحب
المسيح.
ونشبع بالمسيح من خلال الصلاة، فهى قناة التواصل المستمر مع الرب التى يستمد منها
المؤمن الحكمة والإرشاد من خلال عمل الروح القدس داخلنا.
لذلك فإن الكنيسة توصى كل أولادها: بأن يكونوا فى اختبار حىّ مع مسيح الحياة
اليومية عن طريق الصلاة بالأجبية، التى تربطنا بشخص المسيح طوال اليوم: ففى باكر
نعيش القيامة، وفى الساعة الثالثة نخاطب الروح القدس، وفى السادسة نعاين أحداث
الصلب، وفى التاسعة نتألم لموت المسيح، وفى الحادية عشر أحداث إنزاله عن الصليب،
وفى الثانية عشر نتذكر دفنه، ثم انتظاره فى المجىء الثانى فى صلاة نصف الليل، وهكذا
تربطنى صلوات الأجبية بشخص السيد المسيح طوال اليوم.
ومن أهم الصلوات التى تعلمنا الكنيسة إياها صلاة يسوع: "يا ربى يسوع المسيح ارحمنى"،
"يا ربى يسوع المسيح أعنى"، "إنى أسبحك يا ربى يسوع المسيح"، وتسمى أيضًا (بالصلاة
السهمية).
وبذلك يكون المسيحى مختبرًا للرب يسوع فى عشرته اليومية، فى مواقف حياته، وفى حل
مشاكله، فيدعو الآخرين: "ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ!" (مز 8:34).
فمحبة المسيح هى علامة ومفتاح الإيمان به.
ب- شبعان بالكتاب المقدس :
فى عصر المعرفة والمعلومات: كل يوم يوجد الجديد (إيجابًا وسلبًا)، والشباب الآن
منفتح عليها فتأتى الرياح الفكرية والفلسفية، والرياح اللادينية واللاطائفية
واللاأخلاقية فتهدد حياة، ومستقبل، وأبدية أولادنا.
لذلك نحتاج أن نقرأ وندرس الكتاب المقدس، دراسة جيدة، لأن هذا سيجعلنا نعرف أن
الكتاب المقدس هو أول مصدر للإيمان والتعليم الكنسى، ندرسه بطريقة شخصية كرسالة
الله لنا ولى شخصيًا، ومرة بطريقة تأملية فأصلى بكلمات الكتاب، ومرة أدرسه بطريقة
تحليلية مع كتب التفسير، لآباء الكنيسة، فعندما نتكلم نجده يفيض تلقائيًا، حينئذ
نتكلم كأقوال الله، نتكلم بروح الله، فروح الله يساعدنا بآية من الإنجيل تدعم
الموقف.
ج- شبعان بالكنيسة المقدسة:
بطريقة روحية هادئة تلقائية ليس فيها افتعال، ولا إساءة لأحد، لكنه يحيا عمق
الأرثوذكسية، فالأرثوذكسية هى منهج حياة، وتعنى الطريق المستقيم فى تمجيد الله،
والمقصود بها أننا عندما نعيش الحياة القبطية الأرثوذكسية، نعيش الحياة الكنسية،
لأن الكنيسة هى: جماعة المؤمنين، المجتمعين فى بيت الله المدشن، بقيادة الإكليروس،
وحضور الملائكة والقديسين، حول جسد الرب ودمه الأقدسين.
هنا نجد جماعة المؤمنين (العقيدة)، بيت الله المدشن (الطقس)، الإكليروس (سر الكهنوت)،
حضور الملائكة والقديسين (التاريخ والقدوة)، لأن هؤلاء هم "أَهْلِ بَيْتِ اللهِ" (أف
19:2)، وهم قدوة نقتدى بهم، هنا نجد حياة الشركة حضورًا فعليًا وليس ذهنيًا، حول
شخص السيد المسيح، الفادى والمخلص فى (سر الإفخارستيا).
فنحن فى كل قداس أمام جوقة من الكنسيات: أمام عقيدة، وطقس، وتاريخ كنسى مجيد، وأمام
السيد المسيح نفسه. ونجد أن أى طقس يُصلى يحوى كل هذه العقائد، لأن الطقس هو وعاء
العقيدة وحافظًا وشارحًا لها، وهو الذى ينقل لنا العقيدة السليمة، فلا تغيير فى
الطقس دون النظر لأهمية العقائد التى يحتويها، كما تسلمناها من الآباء.
د- شبعان بالآباء :
نحن ككنيسة استلمنا من الآباء ما قد تسلموه من الرب نفسه، والتسليم يعنى التقليد.
هناك ثلاثة أمور لابد أن نعرفها فى البعد الآبائى:
1- نعرف حياتهم وتقوى سيرتهم. 2- نقتدى بهم. 3- نستشهد بأقوالهم بإجماع الآباء.
- كما يقول القديس أغسطينوس: "أنا أقبل الكتاب المقدس مسلمًا من الكنيسة، مشروحًا
بالآباء، معاشًا فى القديسين".
- وكان القديس الأنبا أنطونيوس يقول: "ليكن لك شاهد من الكتب على كل عمل تعمله"،
وقال أيضًا: "كتبى هى شكل الذين كانوا قبلى، وإن أردت أن أقرأ ففى كلام الله أقرأ"،
هنا نجد أن دراسة كتب الآباء وسيرهم هامة جدًا لكل مسيحى، خاصة فى هذا الوقت، ويجب
الاستعانة بأقوالهم فى الكلمة والعظة التى تقدمها الكنيسة للشعب، فالكنيسة التى بلا
جذور (تراث) ليست فيها حياة.
وهنا نشير إلى أهمية إجماع الآباء المعتبرين أعمدة فى وحدة الرأى، فلا نأخذ برأى
منفرد عما حددته الكنيسة المقدسة.
هـ- شبعان بالتكامل :
أى على دراية بما يحدث فى المجتمع من قضايا، ومشاكل، وأيضًا ملمًا بالأحداث
الإقليمية والعالمية. بمعنى ألا يكون شخصية نتوئية، فيها أجزاء بارزة وأجزاء أخرى
منحدرة، ولكنها شخصية متكاملة متزنة ومتوازنة فيها: الروح تشبع بالله، والعقل
يستنير بالكلمة، والوجدان يمتلئ بالحب (نحو الله ونحو الناس)، والجسد صحيح وسليم،
والعلاقات الاجتماعية تكون ناجحة.
لذلك فإن الشخصية المتكاملة تهتم بكل هذه الأبعاد الخمسة، ولا تهتم بجانب على حساب
جانب آخر.
كذلك.. ففى التعليم القبطى الأرثوذكسى هناك تكامل بين الكتاب والعقيدة والطقس
والآباء والروحيات، من أجل غنى وثراء الخادم والمخدومين، وشبعهم بوجبة متكاملة
لحياة التقوى الروحية، ولبنيان جسد المسيح (الكنيسة). ونشكر الله من أجل نضج ووعى
شبابنا، وخدام الكنيسة. إذ لهم الحواس المدربة، فيميزون بين الغث والسمين.
ثانيًا: مصادر التعليم القبطى الأرثوذكسى
١- الكتاب المقدس :
الكتاب المقدس، هو دستورنا والحارس الأعلى لكل تعليم فى الكنيسة؛ لأنه المصدر الأول،
والأعلى، والرئيسى للإعلان الإلهى. وقد بذل الآباء كل جهدهم وحياتهم فى تفسيره،
ودراسته، كوحدة واحدة موضوعها الرئيسى قصة خلاص الإنسان.. وهنا نذكر تحذير قداسة
البابا شنوده الثالث بخطورة الاعتماد على الآية الواحدة، بل فى روح الكتاب كله، فلا
يجوز التعليم بما يخالف أى نص فى الكتاب المقدس"وَأَنَّكَ مُنْذُ ٱلطُّفُولِيَّةِ
تَعْرِفُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاصِ،
بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِى فِى ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ
مِنَ ٱللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ
ٱلَّذِى فِى ٱلْبِرِّ، لِكَى يَكُونَ إِنْسَانُ ٱللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّبًا لِكُلِّ
عَمَلٍ صَالِحٍ" (٢تى 15:3-١٧). أى الكتاب المقدس كله بعهديه: العهد القديم والعهد
الجديد (من أول إصحاح فى سفر التكوين فى العهد القديم، إلى آخر إصحاح فى سفر الرؤيا
بالعهد الجديد).
٢- التقليــد الكنسى:
أ- مفهوم التقليد:
التقليد هو التسليم أو التعليم، بمعنى الأمور المُسلَّمة من يد إلى يد. وهى
الترتيبات والطقوس الدينية، والكنسية والتعاليم المُسلَّمة من جيل إلى جيل،
والتقليد هو الذى سلمنا الكتاب المقدس.
فلقد استعمل القديس بولس الرسول نفس الكلمة قائلاً: "فَشُكْرًا لِلَّهِ أَنَّكُمْ
أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِى تَسَلَّمْتُمُوهَا" (رو
17:6). فالتعليم إذن هو شئ يُسلم ويُعطى، لذلك أيضًا يمدح معلمنا بولس الرسول كنيسة
كورنثوس: "أَنَّكُمْ تَذْكُرُونَنِى فِى كُلِّ شَىْءٍ وَتَحْفَظُونَ التَّعَالِيمَ
كَمَا سَلَّمْتُهَا إِلَيْكُمْ" (1كو 2:11). من هنا فالتقليد بمعنى التعليم جاء فى
مواضيع كثيرة من الكتاب المقدس.
فالإيمان والتعليم من البداءة: تسلَّمه الآباء من الرب يسوع نفسه، وحفظه الآباء
الرسل الأطهار، وبشروا وكرزوا به، بالإضافة إلى ما وضعه وسلَّمه آباء الكنيسة فى
الأجيال "القرون" الأولى للمسيحية، وكلاهما ذو أهمية كبرى، وله اعتباره الجدير
بالحفظ والتصديق والإجلال والتسليم. فكل الكنائس شرقًا وغربًا فى القرون الأولى قبل
عصر الانشقاق الخلقيدونى، قبلت واعترفت بالتقليد الرسولى، وحافظت على كل ما فيه من
تعاليم، إلى أن وصل إلينا سليمًا نقيًا على مر الأجيال وتعاقب الأزمان.
ب- دور التقليد فى تفسير وحفظ الإيمان المسيحى :
هدف المسيحية من حقائق الإيمان المسيحى هى أن تكون حياة معاشة. فالإيمان بالمسيح لا
يمكن أن نفهمه إلا إذا كان معاشًا ومختبرًا عمليًا - هذا هو منهج الكنيسة المقدسة -
وليس كما يتوهمه البعض بحسب العقل البشرى المنفرد، والبعيد عن الكنيسة وتقليدها
الحىّ. لذلك يعلن القديس كبريانوس عن أهمية الكنيسة فى حياة المؤمن المختبر للحياة
الإيمانية الإنجيلية قائلاً: "لا يقدر أحد أن يأخذ الله أبًا له ما لم يأخذ الكنيسة
أولاً أمًا له". فلا خلاص خارج الكنيسة، فهى سفينة النجاة، وميناء الخلاص.
٣- الليتورجيـــــا:
الليتورجية الكنسية هى أيضًا مرجع موثق، وله نفس قيمة قوانين المجامع؛ لأنها تحظى
بصفة الإجماع، باعتبار أن كل الأجيال صَلَّت بنفس الكلمات، معبرة عن نفس الإيمان
النقى، بروح التقوى. فلا يجوز التعليم بما يخالف ما نصلى به فى ليتورجيتنا الرسمية،
"فنحن نصلى بما نؤمن به، ونؤمن بما نصلى به.." كقول القديس إيريناؤس.
ففى الصلاة بالليتورجيا :
- نُعلِّن إيماننا بالثالوث القدوس، وإيماننا بتجسد الابن الوحيد، وفدائه لنا،
وموته على الصليب المقدس، وقيامته فى اليوم الثالث، وصعوده إلى السماء، وأرسل لنا
روحه القدوس، وأسس الكنيسة المقدسة.
- نُعلن إيماننا بالمجىء الثانى، والدينونة العامة، وقيامة الجسد.
- نُعلِّن إيماننا بالأسرار المقدسة، وبضرورة المعمودية والإفخارستيا للخلاص، وكذلك
إيماننا بعمل الروح القدس فينا وفى الكنيسة.
- ونُعلِّن أيضًا إيماننا بأن القديسة العذراء مريم هى الثيؤطوكوس (والدة الإله)،
أم جميع القديسين، وإيماننا بشفاعة القديسين، وأننا كنيسة واحدة: فرع منها (الكنيسة
المجاهدة) نحن الأحياء، والفرع الأخر (الكنيسة المنتصرة) من سبقونا إلى السماء.
وكل هذا الإيمان والتعليم نجده فى منطوق قانون الإيمان.
وبالإجمال.. فالليتورجيا المقدسة تحمل فكرنا العقيدى.. مُصاغًا فى صورة صلوات..
نُسبِّح بها الله، ونُعلن فى نفس الوقت إيماننا النقى الأصيل بما نُصلى به.
٤- سيرة وحياة وأقوال الآباء:
وهم الآباء الذين ساهموا فى شرح، وصياغة الإيمان، ويُشترط للأخذ برأيهم، أن يكون
وفق ما حددته الكنيسة، أى أن هذا الرأى عليه إجماع كنسى..
- ولكن كيف نقرأ الآباء؟
أ- نقرأ نصوص الآباء فى أصولها، أو الترجمات الأمينة المعتمدة "وَمَا سَمِعْتَهُ
مِنِّى بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً
أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا" (٢تى ٢:٢).
يقول القديس أثناسيوس الرسولى: "دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة، وتعليمها،
وإيمانها، الذى هو من البداية، والذى أعطاه الرب، وكرز به الرسل، وحفظه الآباء،
وعلى هذا الأساس تأسست الكنيسة، ومن يسقط منه فلن يكون مسيحيًا، ولا ينبغى أن يدعى
كذلك فيما بعد".
ب- نقرأ الدراسات الآبائية التى قام بها الباحثون، والدارسون الأمناء لروح الكنيسة،
وإيمانها، وتعليمها.
ويكون لنا دائمًا روح التمييز والافراز؛ لئلا تقودنا أفكار الآخرين إلى متاهات
فكرية، بعيدة عن ما قصده الآباء فى كتاباتهم "وَتَعْرِفُ مَشِيئَتَهُ، وَتُمَيِّزُ
ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ، مُتَعَلِّمًا مِنَ ٱلنَّامُوسِ" (رو 18:2).
ج- نقرأ للآباء المعتبرين أعمدة فى الكنيسة، والذين ساهموا بصورة أمينة فى شرح
وصياغة الإيمان، مستندين على عمل الروح القدس، والكتاب المقدس، والتقليد المقدس،
وما تسلموه من الآباء الرسل.
كما أن كنيستنا القبطية الأرثوذكسية لا تؤمن بعصمة البشر، حتى أن الكتاب المقدس
يعطينا أمثلة لآباء، وأنبياء، وقديسين أخطأوا، ونحن أنفسنا نخطئ كثيرًا، وطوبى لمن
يصحح نفسه، ولا يعاند ويستمر فى الخطأ.
٥- قرارات وقوانين المجامع المسكونية:
وهى بمثابة قوانين، تقف فوق كل تعليم؛ لأن ما تم مناقشته فى مجمع وصار محسومًا،
يحظى بصفة الجماعية. وغالبًا ما تُذيّل قوانين المجامع بحرمانات لمن يُعَلِّم بعكس
ما فى القرار المجمعى.. كقول معلمنا بولس الرسول: "وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ
نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ
أَنَاثِيمَا!" (غل 8:1).
ثالثًا: تسليم الإيمان والثبات فيه
أسس الرب يسوع كنيسته المقدسة على صخرة الإيمان الأرثوذكسى.. "عَلَى هَذهِ
الصَّخْرَةِ أَبْنِى كَنِيسَتِى" (مت 18:16)، أى على صخرة الإيمان به، ثم كلّف رسله
برعاية شعبه.. "ارْعَ غَنَمِى" (يو 16:21)، وكذلك كلفهم بحفظ الإيمان، وتعليم الشعب:
"وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ" (مت 20:28).
وكنيستنا القبطية الأرثوذكسية ترفض التعليم الغريب :
لا يوجد شئ يزعجها مثلما يوجد شخص يُعلِّم تعليمًا غريبًا. فكان جهاد الآباء
مُنصبًا على رفض الهرطقة وإنذار الهراطقة بالقطع والعزل إذا أصروا على هرطقتهم،
وحماية الكنيسة من شرهم، وحفظًا لوحدة الكنيسة من الانقسام.. مع الدور الإيجابى فى
تسليم الإيمان نقيًا للشعب بمراحله العمرية.
وهذا هو دور الأب الأسقف فى الكنيسة:
١- أن يحفظ الإيمان، ويُسلّمه إلى الأجيال التالية سليمًا نقيًا. "وَمَا سَمِعْتَهُ
مِنِّى بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أوْدِعْهُ
أنَاسًا أمَنَاءَ، يَكُونُونَ أكْفَاءً أنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أيْضًا" (2تى
2:2). وهذا ما يتعهد به الأب الأسقف أمام هيكل الله، وقت سيامته أسقفًا.
٢- ويجب أيضًا أن يكون صالحًا للتعليم بطريقة إيجابية بناءة، وبقوة حازمة ومحبة
حانية.. "لاَ يَجِبُ أنْ يُخَاصِمَ، بَلْ يَكُونُ مُتَرَفِّقًا بِالْجَمِيعِ،
صَالِحًا لِلتَّعْلِيمِ.." (2تى 23:2-٢٤).
٣- وأن يكون "مُلاَزِمًا لِلْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِى بِحَسَبِ التَّعْلِيمِ،
لِكَى يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَعِظَ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ
الْمُنَاقِضِينَ" (تى ٩:١). وأن يكون ساهرًا على التعليم (رؤ ٢:٣).
فالإيمان فى عُرف الكنيسة هو: وديعة يستلمها الأب الأسقف، ويتعهد بحفظها بنقاوة،
وحرص شديد، والثبات عليها، ويُسلمها بدوره إلى أناس أمناء لهم الكفاءة أن ينقلوها
بشرحها من جيل إلى جيل.. والكنيسة تقدم فى كل جيل، الأمناء الأكفاء الذين يفصلون
كلمة الحق باستقامة.. ويكونون بعمل الروح القدس فيهم صالحين للتعليم.. فلا مجاملة
فى الإيمان، ولا تهاون مع المخالفين.
رابعًا: لماذا نواجه البدع والهرطقات؟ وكيف؟
١- لماذا المواجهة؟
يقول البعض: ما ضرورة مواجهتهم؟ وكيف للكنيسة وهى مسئولة عن سلام العالم، ومسئولة
عن نشر فكر المسيح، وتعميق روح الحب.. كيف لها أن تحارب أشخاصًا وتطردهم وتقطعهم؟!..
ألا يوجد هنا شبهة قساوة وإرهاب فكرى، بدلاً من اتجاه التجميع والاحتضان والتسامح
والحب؟!!
- ولكن أيضًا هل يجوز للكنيسة أن تترك كل إنسان (مهما كان) أن يفكر كما يشاء، وينشر
فكره الخاص الخاطئ؟ تحت ادعاء طيبة القلب والتساهل، وخلاص نفس الآخر بقبوله؟!
ونجد السيد المسيح يحذرنا فى الموعظة على الجبل بقوله: "اِحْتَرِزُوا مِنَ
الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ،
وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!" (مت ١٥:٧).
فكنيستنا بطول الزمان لجأت إلى منهج عقد المجامع، ومحاكمة الهراطقة، وقطعهم وفرزهم
عند إصرارهم.. ونحن مازلنا نمدح أبطال الإيمان، الذين شاركوا فى مجامع وقرارات قطع
الهراطقة، وأمضواعمرهم كله فى جهاد ضد الأفكار الخاطئة المتمردة، منهم: القديس
أثناسيوس الرسولى، والقديس كيرلس الكبير، والقديس ديسقوروس مصباح الأرثوذكسية،
والقديس صموئيل المعترف الذى مزق طومس لاون. وغيرهم فى التاريخ الكنسى من الآباء
العظام، الذين حاموا عن الإيمان المستقيم. ولذلك يجب علينا أن نسير على خطاهم،
ونكون أمناء مثلهم فى حفظ الإيمان الذى تسلَّمناه نقيًا.. وذلك لأن:
أ- مواجهة الهراطقة أمر كتابى:
إن وحدة جسد السيد المسيح لا تحتمل وجود الهراطقة.. بل قطع الهراطقة هو ضمان لحفظ
وحدانية الجسد والروح والفكر.. فوجود الهراطقة داخل الكنيسة يهدد وحدتها، وسلامتها،
وسلامة إيمانها "وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا
الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ، خِلاَفًا لِلتَّعْلِيمِ
الَّذِى تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ. لأَنَّ مِثْلَ هَؤُلاَءِ لاَ
يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ. وَبِالْكَلاَمِ
الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ" (رو
17:16-18). فالهرطقة تؤدى إلى الانقسام، وقد علمنا السيد المسيح أن: "كُلُّ
مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ
مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ" (مت ٢٥:١٢).
ب- آباؤنا الرسل واجهوا الهراطقة:
لقد كان جهاد الآباء الرسل ينصَّب فى اتجاهين متكاملين: أولاً نشر الكرازة بالإنجيل،
وثانيًا حفظ الإيمان سليمًا نقيًا بلا عيب، لئلا يتغير إنجيل المسيح. لذلك وقفوا
بالمرصاد لكل من يخرج عن الإيمان الأرثوذكسى.. أنظر ما قاله معلمنا بولس الرسول
لتلميذه تيموثاوس: "اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ. اعْكُفْ عَلَى ذلِكَ فِى وَقْتٍ
مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ. وَبِّخِ، انْتَهِرْ، عِظْ بِكُلِّ أَنَاةٍ
وَتَعْلِيمٍ" (٢تى ٢:٤).
٢- كيف نواجه الهراطقة؟
١- الإنذار: "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُطِيعُ كَلاَمَنَا بِالرِّسَالَةِ، فَسِمُوا
هذَا وَلاَ تُخَالِطُوهُ لِكَىْ يَخْجَلَ، وَلكِنْ لاَ تَحْسِبُوهُ كَعَدُوٍّ، بَلْ
أَنْذِرُوهُ كَأَخٍ" (2تس 14:3-15)، (١تس ١٤:٥).
٢- التجنب: "اَلرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ،
أَعْرِضْ عَنْهُ" (تى 10:3)، (رو 17:16، 1تى ٥:٦).
٣- التوبيخ: "فَلِهذَا السَّبَبِ وَبِّخْهُمْ بِصَرَامَةٍ لِكَىْ يَكُونُوا
أَصِحَّاءَ فِى الإِيمَانِ، لاَ يُصْغُونَ إِلَى خُرَافَاتٍ
يَهُودِيَّةٍ، وَوَصَايَا أُنَاسٍ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْحَقِّ" (تى 13:1-14).
٤- القطع: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ، وَلاَ يَجِىءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ،
فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِى الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ.
أَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِى أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَةِ" (2يو
10:1-11)، (1كو 11:5، 1كو 13:5)، فالقطع هنا ليس عن حقد وخصومة، بل بهدف ربح نفس
هذا الإنسان، وخلاص نفسه. ولإعلان رفض الكنيسة لهذا الفكر الخاطئ حتى لا ينتشر بين
المؤمنين.
والكنيسة مسئولة ليس فقط عن حفظ التعليم السليم، ولكن أيضًا عن حفظ شعبها، بعيدًا
عن الذئاب الخاطفة... الذين "يَرْعَوْنَ أَنْفُسَهُمْ" (حز 2:34). وهنا يوصينا
الحكيم: "كُفَّ يَا ابْنِى عَنِ اسْتِمَاعِ التَّعْلِيمِ لِلضَّلاَلَةِ عَنْ كَلاَمِ
الْمَعْرِفَةِ" (أم ٢٧:١٩).
لذلك يجب على كل مسيحى أن يقوم بدوره نحو بيته وأولاده، ومخدوميه بالكنيسة، وأن
يقدم التعليم النقى السليم، وما تعلمناه وتسلمناه من كنيستنا القبطية الأرثوذكسية
المجيدة. لأنه قديمًا قيل: "سُبِى شَعْبِى لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ" (إش ١٣:٥).
نرجو من الرب أن يحفظنا جميعًا فى سلامة الإيمان، والتعليم القبطى الأرثوذكسى
السليم،
والسيرة المقدسة، بقيادة روحه القدوس، إلى النفس الأخير.. له كل المجد.